طق خااااص
خالد ماسا
وقبل أيام، ينام الشعب السوداني المكلوم في وطنه على وسادة الأحزان بعد أن شاهد فيلم رعب "قصير" لا يتعدّى الثلاث دقائق، لأقصر محاكمة في التاريخ، ابتدأت بالسؤال عن مكان قائد الفرقة في الفاشر، وانتهت بوابلٍ من الرصاص صعدت به روح بريئة إلى السماء، ومضى المجرم لا يلوي على شيء. ولم تنتهِ بعد مراسم العزاء في هذا الوطن بمراسم الدفن.
ويسألني صديق مستنكراً: كيف يجوز لكم أن تفتحوا صفحة "الرياضة" في صيوان العزاء الكبير، والسودان يرتدي الأسود حداداً على كل شيء؟
قلت: لأننا نتفق معك في أننا مصابون بكسور مركبة في الخاطر بسبب ما نقرأه في "مانشيت" الحرب والسياسة، ونحن أولياء دمٍ في هذا العزاء الكبير، ولكننا نختلف في رؤيتنا لدولة "الرياضة"، التي لا يُسأل أحد فيها عن "قبيلته"، ولا يتحدث العارفون بفضلها عندما يُعزف السلام الوطني: "يا بني السودان هذا رمزكم"، ليلعب المنتخب الوطني وجيش صقور الجديان باللغة التي لطالما فرّقت السودانيين وأقامت الدم بينهم، إلا من بعض الأقلام التي تغرق في "شبر" ماء آسن اسمه "هلال مريخ" في حضرة منتخب الوطن.
زاوية "شوفنا" لانتصارات منتخبنا الوطني في محفل يضم أمم أفريقيا كلها، لا تأتي أولاً من خلال خطط المدرب كواسي أبياه، ولا من خلال أهداف "روفا" وإبداعات "كانتي"، وإنما من خلال فرحتنا بتركيبة منتخبٍ نحن واللاعبون فيه اسمنا "سودانيين"، يجمعنا الجبل والصحراء.. النهر والبحر. ويكفي لاعبيه فخراً أنهم، بصعودهم أمس الأول، كانوا سبباً في "زغاريد" لم تعرف طريقها إلى بيوت الطين منذ عامين من الدموع في وحشة مدن اللجوء، وكسرة الخاطر في جحيم النزوح.
صعود المنتخب الوطني هو "قُفة الفرح" التي صارت عزيزة علينا في وطنٍ يُقتل فيه الناس بذنوب لم يقترفوها، والفرحة التي يصنعها هي الوريد والحبل السُري الذي يبقي يقيننا بعظمة هذا الشعب وأرضه على قيد الحياة، إلى حين الشفاء من أمراض السياسة والحرب التي تفرقنا.
نحن ننظر للرياضة من مدرجاتها التي تهتف بصوت واحد: "فوق.. فوق.. سودانا فوق". فمن فيكم سمع بشيء بهذه العظمة في أسفل سافلين الحرب والسياسة والعنصرية والكراهية البغيضة؟
لم يسأل أحد عن كيف ينظر إلينا العالم بعد مشاهدة مقطع المحاكمة أعلاه، وفي أي تصنيف تقع حربنا.
هذا الظهور الباذخ لمنتخبنا وصعوده للأدوار المتقدمة على حساب منتخبات دولٍ تعيش الأمن والاستقرار الاقتصادي، هو واحد من أهم مظاهر بقاء "الدولة" وتماسك مكوناتها، وهو واحد من مؤشرات سلامة الأجهزة الحيوية في جسد أصابته رصاصات الحرب والكراهية، وهو عبارة عن صحن "البليلة" في الفاشر وكادوقلي، وأمصال العلاج في دور الإيواء، وجزء من راتب الموظفين المتأخر، وتحرير المدن.
صعود المنتخب هو ما كتبه يوسف مصطفى التني: "في الفؤاد ترعاه العناية"، وهو موقفنا الأصيل من الرصاص، لأن هذا الشعب يستحق أن يقدّم وجهه في قدحٍ غير قدح الدم والموت. والرياضة هي "قوتنا المشتركة" التي نزود بها عن حياض الوطن، ولذا يجب أن لا نتعاطى مع صفحتها بهذا التسطيح المخل.
0 التعليقات